معظم دول مجلس التعاون الخليجي تعمل بلا استثناء على الاستثمار في البشر من مواطنيها، على أمل أن يأتي اليوم الذي ينجح فيه التوطين في التغلب على الخلل في ميزان القوة العاملة ويأخذ المواطن حقه في الوظائف، خاصة أن بعض دول الخليج يصل فيها الخلل حالياً إلى 80% لصالح العمالة الوافدة. ولكن لا تتحقق الآمال بالتمني وبرفع شعارات "السعودة" أو "الأمرتة" أو غيرها من شعارات الحث على التوطين، كما أنها لا تتحقق بالاستثمار البشري غير المدروس، أو بطرح استراتيجيات للتنمية البشرية غير واقعية، فالأمر يحتاج إلى توصيف دقيق للظاهرة وتحديد أدق للهدف من التوطين، ثم مقارنة الأهداف بالنتائج للتعرف على الأخطاء ونقاط الضعف في الاستراتيجيات والسياسات المتبعة ومحاولة تطويرها أو تعديلها أو تبني غيرها لضمان تحقيق النتائج المنشودة. أعتقد أن الهدف من التوطين غير واضح لكثير من صناع استراتيجيات التوطين في دول مجلس التعاون الخليجي، لأنه بعد أكثر من عقدين من الزمن على تطبيق هذه الاستراتيجيات لا يزال الوضع القائم بعيداً جداً عما هو مأمول تحقيقه. فإذا كان الهدف من التوطين هو الرغبة في الزج بالمواطنين في أي وظيفة، فإن الأمر قد تحقق بنسبة ما، ولكن هذه الوظائف لا تسمن ولا تغني من جوع إذا قيست بمؤشرات "القيمة الحقيقية" لهذه الوظائف في سوق التنمية الإدارية والتطور الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع الخليجي، فمعظمها وظائف هامشية وثانوية، وأكثرها لا يحتاج إلى تأهيل علمي عالٍ وخبرة عملية كافية للقيام بها، لذلك فهي لا تخرج عن كونها سداً لذرائع قد تثيرها وزارات العمل ومؤسسات متابعة التوطين في دول الخليج نتيجة لتشريعات تنظم عملية التوطين. والحجج التي يثيرها أصحاب القطاع الخاص من أجل التهرب من الالتزام بسياسات التوطين كثيرة، منها ارتفاع المطالب المادية والمزايا العينية للمواطن عن الوافد مما يزيد من التكلفة، وضعف ثقافة العمل لدى المواطن الأمر الذي يضعف جديته والتزامه في العمل، وسعي المواطن ليكون في وظيفة ذات جاه ومركز اجتماعي ليحافظ على صورته في المجتمع، وكلها حجج واهية، خاصة إذا طالعنا الحشد الكبير من المواطنين الأكفاء الذين يقودون الاستثمار والتنمية في معظم دول الخليج ويتحملون مسؤولية إدارة المشروعات الكبرى. الاستراتيجيات معلنة والسياسات كثيرة ومنتديات التوطين متعددة ومؤتمرات التوظيف والتوطين أكثر ولكن النتيجة غير ملموسة... لماذا؟! إن البداية الحقيقية للتوطين يجب أن تبدأ من تحديد الهدف الواضح والدقيق، وهو أن يتم ربط التوطين بالتنمية الشاملة للدول في كافة المجالات، وأن تتوقف الحكومات عن تنفيذ سياسة "البطالة المقنعة" داخل المؤسسات والأجهزة التابعة للقطاع الحكومي، وتعمل على أن يأخذ المواطن المؤهل مكانه الوظيفي الطبيعي في القطاع الخاص، وتشجيع المواطنين على امتلاك صناعات وسيطة وصغيرة، وكسر احتكار جنسيات بعينها لسلع أو قطاعات اقتصادية وتجارية تؤثر في الأمن الغذائي والاقتصادي للدول. ويمكن تلخيص أهم الإشكاليات التي تقف حجر عثرة أمام تنفيذ أهداف استراتيجيات وسياسات التوطين في الآتي: * الاهتمام بالتوظيف "الكمي" على حساب التوظيف "النوعي" من حيث أهمية الوظيفة وقيمتها ومكانها في السلم الوظيفي ومستقبلها، بهدف تحقيق نسب توطين مناسبة، مما يعد إهداراً للكفاءات المواطنة وخفضاً لمعنوياتها وربما دفعها للهجرة. * عدم توافر إحصاءات دقيقة وقواعد بيانات يجري تحديثها باستمرار، عن التوطين في دول مجلس التعاون الخليجي، والقطاعات والوظائف التي تم توطينها. * لا توجد دراسة معمقة لعوامل نجاح أو إخفاق تجارب التوطين في بعض الدول بما يمكن معه الاستفادة من الخبرات المختلفة والتعرف على الدروس المستفادة للاسترشاد بها في وضع استراتيجيات متكاملة وسياسات فاعلة للتوطين. * عدم وجود استطلاعات للرأي ومسوحات ميدانية تحدد الأسباب الحقيقية وراء إحجام القطاع الخاص عن توظيف المواطنين في الوظائف عامة والوظائف المهمة خاصة، سواء على مستوى الإدارة العليا أو الوسطى. * سياسة السوق المفتوحة وجذب الاستثمار الأجنبي التي تنتهجها الدول الخليجية بشكل عام تفرض على الحكومات نوعاً من التوازن أثناء تنفيذ سياسة التوطين. * عدم وجود حصر دقيق للاحتياجات من الوظائف المتوافرة في السوق على المديين القريب والبعيد وتأهيل المواطنين لها. * عدم إقبال بعض المواطنين على الدخول في منافسات على الوظائف التي يتم الإعلان عنها، إما بزعم "البرستيج" والتعالي على المتنافسين، أو خشية الفشل، أو أحياناً عدم الثقة في النفس. * عدم مواكبة برامج التأهيل وتدريب المواطنين لمتطلبات سوق العمل واحتياجات القطاع الخاص، في ظل ضعف العلاقة بين مخرجات التعليم وسوق العمل، مع الحاجة إلى مشاركة القطاع الخاص في وضع سياسات التوطين. * إن منتديات التوطين والتوظيف والإرشاد الوظيفي أصبحت روتينية وفقدت في كثير من الأحيان جدواها وفاعليتها، ومن ثم لم يعد هناك اهتمام من المواطنين بالإقبال عليها. * ضعف الحوافز التي تعرضها الجهات المعنية على مؤسسات القطاع الخاص في مقابل توطين الوظائف. * عدم تفعيل التشريعات والقوانين التي تحاسب المؤسسات على نسب التوطين. * الحاجة إلى تحفيز الموارد البشرية المواطنة للمساهمة بشكل فعال في عمليات البناء والتطوير والتنمية. والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا الاهتمام بالتوطين في الوقت الذي تتوافر فيه في دول المجلس ثروات "بترودولار"، وتقوم بدورها في رعاية مواطنيها؟ أو بعبارة أخرى: ما هي مخاطر فشل سياسات التوطين على الأمن القومي للدولة؟ الإجابة تكمن في فهم ثلاثة أبعاد؛ الأول في ارتفاع نسبة البطالة في بعض دول الخليج مما يعني وجود مواطنين في سن العمل لا يملكون مصدراً للدخل ومن ثم يصعب عليهم بناء أسرة أو الإسهام في خطط تنمية المجتمع، وقد يدفعهم الأمر إلى الانحراف أو العزلة. والبعد الثاني هو الشعور بالمواطنة والقيام بواجباتها، فعندما يجد المواطن نفسه غريباً في وطنه ولا يملك حق العمل في وظيفة تتلاءم مع تأهيله العلمي وخبرته فسيحتمي بعشيرته وقبيلته وطائفته على حساب وطنه. أما البعد الثالث فيتمثل في دور المواطن في الإسهام في بناء وطنه، فشعور المواطن بأن ما يقوم به من عمل له مردود على مجتمعه، وأن جهده وعرقه يسهمان في صنع حاضر ومستقبل وطنه سيكرِّس الولاء والانتماء. من كل ما سبق تبرز الحاجة إلى فتح ملف التوطين في دول مجلس التعاون الخليجي، وجعله عملاً مستمراً دؤوباً وليس عملاً موسمياً أو احتفالية في منتدى أو مؤتمر أو ندوة، وعدم إغلاقه قبل التوصل إلى استراتيجيات وسياسة تأخذ في الاعتبار التخطيط التنموي وربطه بالاستثمار في رأس المال البشري والتوطين، وأن توجد جهة مركزية لمتابعة عملية تنفيذ وتقييم سياسات التوطين... وإلا سنكون كمن يحرث في البحر!